الجمعة، 16 أكتوبر 2015

نصفُ رحلةٍ مِن بنغازي

كنا ثلاثة فتية في عربة معدنية مطلية بالأبيض تسمى  "فيتو" نجلس في الكرسي الخلفي .
و كان على اليمين شاب نازح من سوق الحوت و على اليسار شاب نازح من حي الليثي عرفت ذلك حين رميت أذني و أنا أركب و سمعت نقاشهما اما أنا بركاوي المنشاء و بوهديمي الهوى في منتصفهم.
أصدع سائق السيارة رؤسنا بصياحه عن وجود مكان شاغر  بالسيارة و التي أعلن أنها لن تتحرك إلا بإكتمال عدد الركاب.
عجبت لك يا أخي  مئة دينار على كل راكب لضاحية البيضاء لن تكفيك حتى يركب أحدهم كرسيك الشاغر!
ثم ما إن أكملت تساؤلي حتى ركب عجوز أسمر البشرة ذي ملامح فزانية صحبة حقائبه و بعض المواد الغذائية.
و بداءت رحلتنا لضاحية البيضاء من محطة الركوب بحي السلام على أنغام موسيقى النجع و صدى صوت محمد حسن الذي ما إن يدخل أذنيك حتى تستذكر أيام الجماهيرية  و الإستقرار و الأمن و الأمان و هكذا قال السائق حين فكر بصوت عال.
كان الطقس جافاً ممتلئاً بالعجاج و الأتربة رغم مرورنا بمراع المرج الخضراء و مزارع فرزوغة و العويلية الجميلة.
أشعل النازح من حي الليثي على شمالي سيجارة قبل أن يعرض علي التدخين .. رفضت حتى لا اغوص معه في نقاش يبكي فيه حرقته من النزوح و التهجير من المنزل و يلعن سلسبيل أم الحرب على أم حفـ*****((حُذفت لأجل مصلحة الدولة العظمى)) .
لبست سماعة الموبايل و سرحت مع محاضرة مسجلة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله عن أينشتيان و نظرية النسبية .. بداءت أفهم النظرية النسبية شيئاً فشئ رغم رائحة الصنان و العرق و الأحذية و الجوارب العفنة التي تملئ السيارة و رحت أهيم مع الدكتر مصطفى في مدى دهاء أينشتاين الذي ربما يكون نسبياً حسب نظريته،شعرت بيد جافة تضرب كتفي لألتفت على يميني و أجد شفاه النازح من سوق الحوت تتحرك أمام وجهي،الشفاه كانت له أما الصوت فكان للدكتور مصطفى محمود حفظ الله سره، ازلت السماعات من أذني لأسمع هذا الأخرق الذي طلب مني ولاعة ليشعل سيجارته .. بحثت عن الولاعة في حقيبتي و لم أجدها..يبدو أنني نسيتها عن مدخل المنزل و أنا خارج .. طلبت من فتى الليثي ولاعة و همت أرسلها لسوق الحوت لينفخ نيكوتينه بعيداً عن أنفي.
نازحوا سوق الحوت هم الأكثر مللاً و ضجراً من بين سكان بنغازي .. يتحدثون عن منطقتهم واقفين على أطلالها و كأنها هي فقط بنغازي و الباقي عبارة عن ضواحي .. أقارن كلامهم قبيل الحرب عندما كان يسبون بورع منطقتهم ويشتكون من كثرة الضجيج و المشاكل و القذارة البشرية التي أصبحت تسكنها أما الأن فيثقلون كاهلنا بأمنياتهم كـ صالتو واحد بشط الشابي او رشفة قهوة من مقهى تيكا أو جلسة مسائية بميدان البلدية او ميدان سوق الحوت.
إن بنغازي ذات الملح و ذات العفن لم ترى يوماً أياماً ملاح أو هكذا تقول الأسطورة .. أو هكذا يقولون من يروون الأسطورة من القيل حتى القال فكانت لهم الأسطورة و كان لنا واقع مغاير لكل الأساطير و كان لبنغازي الملح و البارود و بضع بقع من الدم المجلط.

إنني اليوم أكتب من بنغازي .. و لا أعلم ماذا أكتب .. أو لماذا أكتب .. ما أعلمه أنه سيأتي يومُ أكتب فيه خارج بنغازي .. و لكن عن بنغازي.
ربما سأكتب فيلماً .. أو رواية .. أو رسالة حب لأكسب ود إحداهن .. أو ربما رسالة عزاء لصديق .. أو رسالة وداع لأمي .
أنا إبن بنغازي .. لا أعلم من هو والدي .. ربما أكون إبن زنا .. ربما يكون والدي عسكرياً أو ملكاً أو شيخاً أو ربما جندي إيطالي ضاجع بنغازي بعدما سكر معها بحانة فندق برنيتشي ..لم أخلق من تراب .. بل من رمال .. يجري الماء و الملح في عروقي .. عندما أحب أنا أغني مرسكاوي .. و عندما أتكدر أنا أغني مرسكاوي .. عندما أجوع أكل فاصوليا أو مفروم أو فول بخبز قمح دائري ..

أنا مزيج من البادية و الحضارة.
أنا كرم و جود و مروؤة البادية
و أنا ثقافة و نبغ و وعي الحضارة
حتماً لن أعيش بسعادة
لكن حتماً على ولدي أن يعيش بسعادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق